بينما يمضي بي
قطار العمر حثيثا نحو سن الأربعين، أجد نفسي بين الحين والحين أقف وقفة تأمل فيما
مضى من العمر وفيما هو آت منه، وفي جملة وقفاتي توصلت إلى قناعات ما كنت لأصل
إليها حتى لو قرأت كل كتب العالم إلا بالتجربة وخوض غمار الحياة؛ أهمها هو أن
الحكمة تتسلل إلى عقل الإنسان شاء أم أبى، فالحياة جامعة كبيرة تمنح العاقل شهادات
في شتى الميادين والتخصصات، حتى يغدوا خبيرا ملما بصنوف وضروب شؤون الحياة على
اختلافها.
وقد تجد
الفراسة سبيلها إلى الشخصية فيغدوا الإنسان متفرسا من الدرجة الأولى، يعلم نتائج
هذا القرار ،وذاك التصرف علما مسبقا؛ ليس علم الكشف والخطوة بقدر ما هو علم
التجربة والحكمة والفراسة والفطنة.
نصائح والدي
-رحمه الله- لي حين كنت طفلا ثم شابا صغيرا، وكان هو في مثل سني تضل حاضرة في
ذاكرتي، كلما تقدمت في مراحل العمر، كيفية استقبالي لتلك النصائح ومقدار أخذي لها
وعملي بها، وكم كانت تحوي من الصواب والحكمة، وكم فاتني منها بسبب عدم عملي أو
فهمي لتلك النصائح، ثم هي تضعني في مواجهة تحد أنا أعتبره خطير وهو؛ كيف أوصل
نصائحي لأولادي..؟ كيف أوصل لهم ثمرة خبرتي وتجاربي في الحياة علهم يستدركون
وينتبهون وهم يضعون أقدامهم في طريق الحياة ومسيرتها..؟.
يمكنك أن تغيير
مواضع الجبال فتنقل جبلا من هذا المكان إلى ذاك المكان، إلا أنك لا يمكن أن تغير
قناعات الإنسان فتحمله على ترك ما يراه صوابا ليعمل بما تراه أنت صوابا أو أصوب،
وهذه فطرة إلهية غير قابلة للتغير في تصوري، حتى مع الطفل الذي لم يبلغ من العمر
مقدار ما يمكنه أن يتخذ قرارا لحياته، يمكننا أن نصدر قرار ما نفرضه على أولادنا
بمنع المسألة الفلانية والسماح بالأخرى، إلا أن قرارنا هذا وإن دخل حيز التنفيذ لا
يمكن أن يغير قناعاتهم ويبدل أفكارهم، وفي اعتقادي هذه هي جزئية الهداية التي عملت
عليها وأشارت إليها الأديان السماوية، وهي تبيان لمعنى أن الله يهدي من يشاء،
فكونه سبحانه وتعالى الخالق القادر المدبر لشؤون الكون والأشياء فيه، يملك القدرة
على أن يغير قناعات الإنسان وأفكاره وتصوراته، لذا فإن التكليف يحضنا على طلب
الهداية من الله بشكل دوري مستمر وبلا انقطاع (اهدنا الصراط المستقيم)..
وعلى الرغم من
ذلك فان تعليق الهداية والتوفيق على المشيئة المحضة أمر مجانب للصواب والمنطق
ومسلمات العقل، ومن هنا كانت النصيحة ركن ركين من اركان تبيان علاقة الإنسان بأخيه
الإنسان، وفي الشرائع السماوية وعلى رأسها الإسلام أن من حقوق الإنسان على أخيه
الإنسان أن ينصحه إذا استنصحه، وأن يقوّم اعوجاجه إن رأى في عمله اعوجاجا موجبا
للنصح، مع الأخذ بالقواعد النفسية والفنية المطلوبة للنصح بحسب الموضع والحال
والزمان والمكان.
والعاقل من
يبحث في عقول الآخرين ويستثمر في تجاربهم، ولا يعيى الإنسان في إيجاد الحكيم
الخبير العاقل، ولذا جاء في الأثر أنه ما خاب من استشار.
وقد أخذت الدول
المتحضرة بهذا المبدأ، فأنشأت مراكز ومجامع لتقديم الاستشارات في شتى المجالات
والتخصصات فتبحث عن (العليم القوي الخبير الأمين) وتوظفه لتقديم النصائح
والاستشارات للناس والمؤسسات، والبعض استثمر في هذا المجال فباتت هناك مراكز
ومؤسسات متخصصة تعنى ببيع الاستشارات والنصائح.
ومن المعاني
التي يصل إليها الإنسان وهو على مشارف الأربعين، أن نار الشهوة -العامة- تخمد أو
ينكسر سعيرها، فحرارة الشهوة واستعار نارها في القلب تدفع الإنسان إلى التسرع
والغضب والانفعال، وبناء الاحكام على الأشياء والناس بموجب ذلك، أما في الأربعين
فيغدوا الإنسان أكثر تعقلا وأطول بالا وأكثر أناة، فلا يصدر حكمه على الأشياء إلا
بعد دراسة الأمر من شتى وجوهه، ولا يحكم على الناس إلا بعد تمحيص ومراجعة وتأكد،
ولا يخطو خطوة في أمر أو طريق حتى يرى موضع تلك الخطوة وما بعدها.
ولعل سائلا
يسأل: ما بال أقوام بلغت بهم السنون مبلغها وتركت على أجسادهم خطوطها وعلى رؤوسهم
ألوانها، ما نفعوا ولا انتفعوا، وما اتعظوا ولا وعضوا...!!!؟.
أولئك لا خلاق لهم وما لهم في نعمة العقل من نصيب، تمضي
بهم الأيام تترى ما ليومهم عن غدهم عن أمسهم من فرق ولا زيادة؛ هم المغبونون
(والمغبون من تساوى يوماه).