استووا، واعتدلوا، واتصلوا، يرحمكم الله..كلمات اعتدنا سماعها في مساجدنا بُعيد إقامة الصلاة؛ وخصوصا يوم الجمعة، كلماتٌ لها معانٍ تتجاوز حدود المكان لتتصل وتتواصل مع ضمير الإنسان في كل زمان، إنه معنى التراص والتواصل الروحي والجسدي والمعنوي الذي أراد الإسلام أن يحييه في نفوس البشرية، كي تتوحد في رؤيتها للعالم من منظار إنساني تجعل الإنسان أخو الإنسان لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يحسده، ولا يبغي عليه؛ وأي شيء على البشرية بعد ذلك لو عاشت هذه المعاني بالفعل والتفاعل، برأيي لو تحقق ذلك تنتفي الحاجة إلى الجنة أبدا.
وبعيدا عن
السياق الإنساني العام لهذه المعاني، ومن ثم دخولا في خصوصية الأمة الإسلامية التي
امتازت عبر قرون طويلة خصوصا القرون الخيرية الأولى بالتماسك والترابط والتراحم
والتعاطف، حتى تكاد أن تصل إلى تصور وأنت تقرأ عن حياة الناس في القرون الخيرية
أنك إنما تقرأ في سيرة المدينة الفاضلة التي لطالما حلم بها العقلاء والفضلاء،
المدينة التي يتواصل ناسها بالتراحم والتواصل والتعاطف؛ إذا اشتكى فيها احد تداعى
لشكواه سائر الناس، كما الجسد الواحد الذي إذا اشتكى فيه عضوٌ تداعى لشكواه سائر
الجسد بالسهر والحمى.
إذا السؤال
الذي يفرض نفسه في هذا السياق ما الذي أصاب الأمة في قرونها الأخيرة حتى تباعدت في
الحال والمصير والهم والقضايا..؟ مع تقارب العالم وتحوله إلى كرة زجاجية كما يصف
أحد الفضلاء، ومع تكتل القوى العالمية وسعيها الحثيث لتتحول إلى مجاميع وتكتلات
كبرى نتشرذم نحن ونتصارع على الرغم من أن مقومات الحياة عندنا من ثروات وخزائن
تكفي لنا ولنصف البشرية معنا، إذا كان النهج الذي سار عليه الأوائل نفسه بين
أيدينا فالمشكلة إذا فينا.
هذا السؤال
لطالما رافقني وأنا أتابع تناقضات الأمة عبر شاشات التلفاز، صاروخ يسقط على عمارة
في غزة عبر إحدى الشاشات، وستار أكاديمي في نفس الوقت على الشاشة الأخرى؛ الأمة
نفس الأمة والمنهج نفس المنهج، فما الذي تغيير حتى يرقص البعض على دماء البعض
الآخر!!!؟.
لا يعجز
الإنسان في العثور على جملة أسباب ومسببات إذا ما بحث وقارن ونظر، فتارة نعزو
الأمر إلى مؤامرة ما، وتارة إلى فساد الأنظمة السياسية، وتارة وتارة وتارة..الخ
تعددت الأسباب والنتيجة واحدة.
ما زال هذا الأمر يحملني وأحمله منذ زمن حتى أدركتني
صلاة الجمعة في وقت قريب في إحدى المدن العراقية، فصليت في أقرب مسجد ساقتني إليه
أقدامي، وصلت للمسجد متأخر وقد أنهكني حر تموز اللاهب، من فضل الله المسجد قد غص
بالمصلين حتى امتلأت بهم الباحات والأروقة والحدائق، وصفوفٌ كثيرةٌ تفترش الحصير
تحت شمس تموز المحرقة ما دعاهم لذلك سوى الرغبة في رضا الله ورحمته.
أشفقت على نفسي
من الجلوس في لهيب الشمس، فعزمت أمري على البحث عن متسع تحت سقف أو ظل في مكان ما،
فوجدت قاعة كبيرة تغص بالمصلين وفيها عدد من مبردات الهواء، وحين دققت النظر وجدت
فسحات بين الصفوف فتخطيت الرقاب رغم علمي بكراهة الأمر، حين وصلت أدركت أن في
المكان متسع كبير يستوعب تلك الصفوف الجالسة في لهيب الشمس، انشغلت عن الجمعة
وخطيبها بالتفكير في أولئك المفترشين الأرض الذين تحرق رؤوسهم الشمس، وهؤلاء
المسترخين تحت الظل الوارف يداعبهم هواء مبردات الهواء ببرودته ورطوبته.
أدركت وأنا
أقلّب بصري وفكري، أن ما على أحدهم سوى أن يستقيم في جلسته حتى يفسح مكانا لشخص او
اثنين ممن في الخارج؛ فلماذا لا يبارون إلى التفسّح في المجالس، على ما فيه من
ثمرة فسحة الله كما ورد في الأثر، الجواب ببساطة هو أن الأنانية الطاغية في نفوسنا
جعلتنا ننكفئ على الذات، شعارنا مادمت انا ومن أعول بخير فما يهمني ما صنع الله
بالناس او ما صنعت بهم الأقدار، وهكذا نجد الأنانية وصلت إلى داخل العائلة الواحدة،
فكل بيت فيها شخص معني بنفسه وهمه وشانه، وإلى داخل البيت والأسرة الواحدة حيث
يعمل كل شخص على مصالحه غير عابئ بالآخرين.
تفكري في هذا
ألأمر جعلني الحظ أمرا لم أتنبه إليه مسبقا، حين تقام الصلاة يوم الجمعة تتراص
الصفوف ما يستدعي انكشاف مدى الفسحات التي كانت داخل المسجد المزدحم، وهو بالتالي
يوجب على المصلين سد الخلل المتأتي من هذا الامر، حين تكون في صف الصلاة ويحصل في
الصف الذي أمامك خلل وفسحة لا تجد في كثير من الاحيان مبادرين من المصلين لسد
الخلل، وفي أحايين كثيرة رأيت الصلاة تؤدى دون أن يسد الخلل، لسبب بسيط كل من
يتواجد في مكان الخلل لا يعتبر أن من واجبه المبادرة إلى سده، والكل يعتقد أنه غير
معني بالأمر؛ لم أنا اسد الخلل؟ أنه أمر لا يعنيني، فليبادر غيري.
هذا الذي أتحدث
عنه في اعتقادي صورة مصغرة عن حال الأمة وهي تئن تحت وطئه الضربات المتلاحقة من
هنا وهناك، وما يحدث في لبنان وفلسطين صورة طبق الأصل عما تحدثت عنه، فالأمة
اللاهية أو المغلوبة على أمرها لاتجد ما يحرك فيها ساكن، فمادام القاتل والمقتول
والضار والمضرور بعيدين عني فالانغمس في النوم، بل إنني لن اكلف نفسي وأرفع يدي
بالدعاء لمن يئن هناك تحت الضربات، بل إن البعض تشفى بما يحصل ويجري على اساس
تصفية الحسابات والخلافات وكذا وألف كذا من المبررات والتفاهات.
صدق الله العظيم الذي قرر في كتابه الأزلي أنه لن يغير
ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ واللبيب بالإشارة يفهم.