لكل إنسان حكمة
يؤمن بها، أثرت في حياته وشخصيته، لذلك نجد في العديد من اللقاءات مع الشخصيات العامة
وخصوصا الفنانين هذا السؤال يتكرر بشكل تقليدي؛ ما هي الحكمة التي تؤمن بها؟.
(حاسبوا أنفسكم
قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعملكم قبل أن توزن عليكم) في مرحلة مبكرة من عمري قرأت هذه
الحكمة، وعلقت في ذهني من أول مطالعة، حتى أنها طبعت في الذاكرة طبعاً، أجزم بأنها
لن تزول، وبالفعل تركت كلماتها أثرا كبيرا في شخصيتي التي تميل دائما بي إلى ضفاف
المحاسبة..
والمحاسبة مبدأ
تربوي عريق ينشّأ عليه الفرد، وهو ليس بدعة ولا محدثة؛ إلا أن آلية المحاسبة تختلف
من شخص إلى آخر، ومن منظومة فكرية إلى أخرى، ومن المستوى الفردي إلى المستوى
الجماعي...وهكذا دواليك.
الجانب الذي
أود أن القي عليه الضوء هو الجانب الشخصي للمحاسبة، وما دفعني للحديث عن هذا
الجانب هو إقبال شهر رمضان المبارك علينا؛
فمستويات المحاسبة متعددة؛ بين المحاسبة اليومية أو الشهرية، أو المحاسبة على وفق
الحوادث والمواقف..أو غير ذلك؛ وفي اعتقادي أن رمضان مناسبة طيبة للمحاسبة
السنوية.
أنا اتخذ من
رمضان مناسبة لا للمحاسبة فقط؛ ولكن للمراجعة الشاملة لحياتي كلها، فأقارن بين
وضعي الراهن ووضعي في الأعوام الماضية، على كل الصعد، الإيمانية، والنفسية،
والعقلية، والعلمية، والفكرية، والمادية والاجتماعية...الخ.
بعض هذه
الجوانب لا يأخذ من وقتي الكثير؛ فيما بعضها الآخر يضنيني ويرهقني في محاولة
المقارنة أو المراجعة الشاملة، مثل؛ هل أنا في حال أفضل أم أسوء من العام الماضي
على صعيد علاقتي بربي، وضعي العلمي، الاجتماعي، المادي.. الخ، ولا استثني من
المراجعة على الإطلاق ما أؤمن به وأعتقده وأتبناه من الأفكار والمواقف السياسية
والثقافية.
وما يشغلني على هذا الصعيد كثيرا-ولا أعرف ما إذا كان
يشغل بال كل الناس- هو: هل أنا على الحق؟! فالأفكار والمناهج والطرائق والمذاهب
متعددة كثيرة تعدد الأديان التي يدين بها 8 مليارات من بني الإنسان على هذه الأرض.
ومن البديهي
أنني على دين ما، وعلى مذهب معين، وانتمي لمدرسة بعينها في فهمي لديني، وحياتي،
وعبادتي، ودنياي، وآخرتي...فهل أنا على الحق في ذلك كله؟!؛ إنني إنما التزمت بكل
ذلك في مرحلة الطفولة ابتدءا لأنني وجدت أبي وأمي على ذلك، ثم إنني في أعقاب مرحلة
الوعي والفهم والعلم والاستقلال عنهما-أي والدي-، احتفظت بما اقتنعت به مما ورثته
عنهما، وخالفتهما في البعض الآخر عن علم وقناعة ودراية..فمن يقول أنني على الحق في
ذلك كله؟!.
كعاقل ومثقف ومسلم أراجع كل شاردة وواردة كل يوم، على ما هداني إليه ربي من دين وفهم عقيدة وعلم، ولا أعدم موازين العقل ومنطق السياسة والترجيح بين المصالح والمفاسد؛ لكن هذا لا يغني عن أن دوام البحث عن الحقيقة، والمداومة على اتهام النفس ومراجعتها في كل شاردة وواردة، خصوصا حين يكون الأمر متعلقا بمصير دين ووطن، وقد نفعني في هذا الأمر ما قرأته عن (الخوارج) من الفرق الإسلامية الضالة، حين كان أحدهم يقوم الليل فلا ينام ويصوم النهار ولا يفطر، ويتورع عن أكل الحرام حتى عن أكل تمرة سقطت من نخلة أحدهم على الأرض، ثم هو يقتل رجلا بدم بارد، له في ميدان صحبة النبي صلى الله عليه وسلم صولة وجولة؛ فأي ضلال ذاك الذي جعل صاحبه يفعل ما يفعل ثم يضن أنه على الحق، ويرجوا لقاء الله فيجزيه بدم الصحابي الفردوس الأعلى.
أليس حريا بي أن أضع نفسي في محل ذلك(المسكين) ألذي {ضل
سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا}، من هذا المنطلق كان الحث على
العيش في الجماعة من الأمور التي أكد عليها الدين، فالفرد الفذ بعيد عن رحمة الله
بسبب بعده عن الجماعة التي لاتعدم عقلاء يرشدون إلى الحق ويدعون إليه، فحين تعجز
عقول الأفراد عن إدراك كنه الحقيقة، يكون في اتباع الجماعة الملاذ الآمن.
لعلي وكثيرٌ من الحائرين غيري، أتعلق بأهداب الجماعة في
تفويض أمري إليها للخروج من حيرتي وسط الفتن التي تحيط بنا كقطع الليل المظلم، حيث
يصبح الرجل فيها مؤمنا؛ ويمسي كافرا...
فهل يدرك من وضعه الله في موقع المسئولية ما هو مسؤول
عنه؟.
قال أحد
الصالحين لخليفة وملك من ملوك الدنيا عظيم في موسم الحج: هل ترى الناس الوقوف
بعرفة؟ وكان عددهم كما اليوم بالملايين، كل واحد منهم يسأل يوم القيامة عن نفسه،
أما أنت فمسئول عن نفسك وعنهم جميعا.
هل يدرك المسؤول
أن جلوسه في السيارة الفارهة، وتحت المكيف على كرسيه الدوار ليس نهاية المطاف؟ وهل
يدرك الذين قالوا: (ياليت لنا مثل ما أوتي فلآن) أي طلب عظيم طلبوا، وأي مركب خطير
تمنوا يركبوا؟!.