تحت وطأة احتجاجات شعبية عارمة ضد استشراء الفساد بالنظام السياسي في العراق، انطلقت مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قدم رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي استقالته، بعد سلسلة حوادث دموية في مدن جنوب العراق أشاعت الفوضى، ووضعت البلاد على شفى حرب داخلية غير معروفة العواقب.
الاستقالة
جاءت على أمل وضع حد للأزمة التي تزداد حدتها يوماً بعد يوم، دون أن يلوح في الأفق
بصيص ضوء في نهاية النفق، وبعد أن أعلن البرلمان قبول الاستقالة بالأجماع، الأحد 1
ديسمبر/ كانون الثاني، تبين أن الاستقالة أخذت المشهد العراقي نحو المزيد من
التعقيد، وباتت الأمور أكثر ضبابية في ظل سباق محموم بين الشارع الغاضب المطالب
بالتغيير، والوسط السياسي الحزبي المتشبث بمكاسبه التي أخذت شرعيتها من القانون
والدستور والانتخابات، التي جرت بعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة
الأمريكية عام 2003.
مأزق
دستوري
وأول
الإشكاليات التي أبرزتها استقالة عبد المهدي، تتعلق بالتخريج الدستوري لهذه
الاستقالة، حيث لم ينص الدستور العراقي الذي أقر عام 2005، على استقالة رئيس
الوزراء مثلما فعل بالنسبة لاستقالة رئيس الجمهورية، حتى أن مسألة أين يقدم رئيس
الوزراء استقالته للبرلمان أم لرئيس الجمهورية تحولت إلى قضية مثيرة للجدل، بسبب
عدم نص الدستور على هذا الأمر.
ويرى
بعض فقهاء الدستور أنه يتعين على عبدالمهدي تقديم استقالته الى رئيس الجمهورية
وليس الى البرلمان كما فعل، معللين ذلك بالقول؛ إن تكليف رئيس الوزراء جاء بمرسوم
من رئيس الجمهورية استناداً الى نص المادة (76) من الدستور.
ويشير
الفقهاء إلى أن الحكومة تحولت الى حكومة تصريف اعمال تحت رئاسة رئيس الجمهورية،
وفق نص المادة (81) التي تنص على أنه يقوم رئيس الجمهورية، مقام رئيس مجلس
الوزراء، عند خلو المنصب لأي سببٍ كان، ثم يقوم رئيس الجمهورية بتكليف مرشحٍ آخر
بتشكيل الوزارة، خلال مدةٍ لا تزيد على خمسة عشر يوماً، ووفقاً لأحكام المادة (76)
من هذا الدستور، والتي تنص على أنه "يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة
النيابية الاكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ
انتخاب رئيس الجمهورية"، وتوجب المادة كذلك أن "يتولى رئيس مجلس الوزراء
المكلف، تسمية اعضاء وزارته، خلال مدةٍ أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ التكليف".
فراغ سياسي
ونظراً
لإلزام الدستور رئيس الجمهورية بتكليف مرشح الكتلة النيابية الأكبر بتشكيل
الحكومة، فإن الجدل حول تسمية الكتلة الأكبر يعود إلى المربع الأول الذي أدخل
البلاد في فراغ سياسي، بعد انتخابات عام 2018، حيث لم تحصل أياً من الأحزاب على
نسبة أصوات تؤهلها لتكون الكتلة الأكبر، الأمر الذي قاد إلى توتر استمر شهوراً بين
الكتلتين الشيعيتين الرئيسيتين في العراق اللتين فازتا بأكبر عدد من المقاعد ولهما
أقوى الفصائل المسلحة، يقود الكتلة الأولى مقتدى الصدر ورئيس الوزراء السابق حيدر
العبادي، ويقود الثانية قائد "الحشد الشعبي" المدعوم من إيران هادي
العامري ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
ولنزع
فتيل الأزمة تم اختيار عادل عبد المهدي (76 عاماً) لرئاسة الوزراء، باعتباره مرشح
تسوية بين الأطراف المتنازعة التي لم تصل إلى حل وسط بينها، وتعني استقالة
عبدالمهدي اليوم؛ العودة الى مشكلة تحديد الكتلة النيابية الأكبر، ومن الأحق
بتسمية رئيس الوزراء، وبحسب وكالة "فرانس برس" فإن الأحزاب السياسية
العراقية بدأت، حتى قبل إعلان البرلمان موافقته رسمياً على استقالة عادل عبد
المهدي، اجتماعات ولقاءات متواصلة لبحث ملامح المرحلة المقبلة، بحسب ما نقلت عن
مصدر، لم تسمه واكتفت بوصفه رفيع المستوى.
ويرى
مراقبون أن عدم توافق الأحزاب السياسية على تسمية رئيس وزراء جديد يدخل البلاد في
فراغ سياسي، الأمر الذي سيجعل من التوجه نحو انتخابات تشريعية مبكرة خيار لابد
منه، في ظل استمرار الاحتجاجات الشعبية، التي لا ترى في استقالة عبدالمهدي تلبية
لكافة المطالب التي خرجت لأجلها، ويعبر المتظاهرون عن عدم اكتفائهم بإسقاط الحكومة
عبر الشعارات التي يرفعونها في ساحات التظاهر المختلفة.
سلام
الزوبعي، الناشط في الحراك بساحة التحرير في العاصمة بغداد، قال
لـ"المجتمع" إن مطالب المتظاهرين منذ بداية الحراك الشعبي تتمثل في
إنهاء حالة الفشل المزمن منذ ستة عشر عاماً، وحل الرئاسات الثلاث، واعتماد قانون
انتخابات واضح ومباشر، وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة بعيداً عن سلطة
الأحزاب ومحاصصتها الطائفية.
تطورات ميدانية
وفيما
تشهد العملية السياسية انسداداً في أفق الحل، تشهد حالة الاحتجاجات والمظاهرات
توسعاً وانتشاراً وإصراراً على مطالب الإصلاح، حيث شارك عشرات الآلاف من الطلاب
والطالبات، في مدن شمال العراق ذات الغالبية السنية والتي بقيت بمنأى عن حركة
التظاهرات، في الاحتجاجات دعماً وتضامناً مع المتظاهرين في الوسط والجنوب، حيث
شاركوا ومعهم بعض شيوخ عشائر محافظات نينوى، وصلاح الدين، والأنبار، في اعتصام
مفتوح، بعد أن أدوا صلاة الغائب على أرواح الضحايا المتظاهرين الذين قتلوا في
محافظتي ذي قار، والنجف، بالرصاص الحي أواخر ومطلع الأسبوع الجاري.
وبحسب المفوضية
العليا لحقوق الإنسان العراقية، فإن حصيلة مواجهة التظاهرات وصلت إلى أكثر من 432
قتيل، و19 ألف جريح، بعد أن شهدت ساحات الاعتصام مواجهات دامية خصوصاً في مدينة
الناصرية مركز محافظة ذي قار.
وذكرت
وكالة "الأناضول"، الاثنين 2 ديسمبر/ كانون الثاني، أن محتجين حاولوا
اقتحام مقر الحكومة المحلية في مدينة كربلاء جنوبي العراق، ما أدى لوقوع مواجهات
مع قوات الأمن.
ونقلت
الوكالة عن الملازم أول في شرطة كربلاء هاني الحيدري قوله: إن "محتجين
يحاولون لليلة الثانية على التوالي اقتحام مبنى مجلس محافظة كربلاء وسط المدينة".
وأضاف:
أن "قوات الأمن صدت المهاجمين ما أدى لوقوع مواجهات بين الجانبين، وسقوط
إصابات"، مشيراً إلى أن " السلطات الأمنية أحاطت مبنى مجلس المحافظة
بالكتل الاسمنتية للحيلولة دون وصول المحتجين إليه".
وفي
محافظة المثنى، أعلن المحافظ أحمد منفي جودة، تعطيل دوام المدارس ثلاثة أيام، وقال
في بيان: "تقرر تعطيل الدوام في جميع مدارس المحافظة لأيام الثلاثاء
والاربعاء والخميس".
ودعت
الولايات المتحدة الأمريكية الحكومة العراقية إلى إجراء تحقيق بشأن أحداث العنف
الأخيرة في مدينة الناصرية، ومحاسبة المسؤولين عن استخدام القوة المفرطة، وقال
مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر إن "الاستخدام المفرط للقوة في
الناصرية كان أمرا صادما ومروعا".
وأضاف
في تصريحات صحفية: "ندعو حكومة العراق إلى إجراء تحقيق ومحاسبة المسؤولين
الذين حاولوا إسكات المتظاهرين السلميين بأسلوب وحشي".
جدير
بالذكر، أن ساحات الاحتجاجات شهدت هدوئاً نسبياً عقب إعلان رئيس الوزراء عادل
عبدالمهدي استقالته، إلا أن الاحتجاجات سرعان ما عادت إلى نشاطها بدئاً من ساحة
التحرير في العاصمة، وفي محافظات الجنوب، والجديد دخول محافظات الشمال ذات
الغالبية السنية على خط الاحتجاج ولو بشكل محدود، وهو ما يضع العملية السياسية
أمام تحدي خطير.